محاضرة حول 
نظرية الأجناس الأدبية




ملخــــــص:

تتناول هذه المحاضرة نظرية الأجناس الأدبية، فتتعرض بدءا لمصطلحي الأجناس الأدبية والأنواع الأدبية، ثم تتتبع المعنى اللغوي لكلا المصطلحين وتتناول بعد ذلك قضية الأجناس في الأدب الغربي قديما وحديثا وتًعرج على نظرية الأجناس في الأدب العربي، ثم تخلص إلى أن نظرية الأجناس رغم ما اعتراها من تغير بدءا بظهور الرومنسية إلى المدارس المعاصرة فإنها لم تعدم من يتبناها ويدافع عنها. إن الحديث عن الأجناس الأدبية هو تناول لنظرية الأدب، ومن هنا تكتسب أهميتها.

الأنواع أم الأجناس؟

نجد كثيرا من الدراسات تهتم بتصنيف الأدب وتحاول تحديد الخصائص المميزة لكل صنف فنجد نظرية النظم أو نظرية الشعر، نظرية الرواية إلى غير ذلك من التقسيمات التي تجعلنا نقف عند موضوع الأجناس، ونظرية الأجناس الأدبية متأصلة في النقد الغربي ومعروفة بهذه التسمية أما في النقد العربي فلم تنل حظا من التناول إلا في مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين كما يذهب إلى ذلك عبد العزيز شبيل الذي لاينفي أن نجد جهودا في هذا المجال منذ الستينيات من القرن نفسه([1]).وقد نقلت إلى الأدب العربي باسم الأجناس الأدبية لدي بعض النقاد،وأسماها بعضهم بالأنواع الأدبية، فمن الذين يستخدمون لفظة الأنواع الأدبية نذكر:

1-   شكري عزيز الماضي: استخدم كلمة الأنواع الأدبية في كتابه في نظرية الأدب، إذ خصص عنوانا هو نظرية الأنواع الأدبية  ضمن كتابه السالف الذكر([2])

2-    رشيد يحياوي: وقد استخدم مصطلح الأنواع في كتابه الشعرية العربية، الأنواع والأغراض الصادر عن دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب 1991([3])   

3-    عبد الفتاح كيليطو: استخدم لفظة الأنواع في كتابه الموسوم ب الأدب والغرابة دراسات بنيوية في الأدب العربي.

الأجناس الأدبية

1.       محمد غنيمي هلال: وقد خصص الفصل الثاني من كتابه الأدب المقارن لقضية الأجناس الأدبية سواء في الأدب الغربي أو الأدب العربي، فهو يرى أن نقاد الأدب اليوناني وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو ينظرون دوما إلى الأدب بوصف أجناسا أدبية، أي قوالب عامة فنية تختلف فيما بينها -لا على حسب مؤلفيها أو عصورها أو مكانها أو لغاتها فحسب – ولكن كذلك على حسب بنيتها الفنية وما تستلزمه من طابع عام، ولم يشذ عن ذلك سوى الناقد الفيلسوف الإيطالي كروتشه المتوفي عام 1952. ([4]).

2.       خلدون الشمعة في مقاله المنشور بمجلة المعرفة السورية ع 177 لسنة 1976 ص ص 6- 25 والمقال موسوم ب: مقدمة في نظرية الأجناس الأدبية ([5]). ويعتبر عبد العزيز شبيل هذا المقال من أول الأبحاث العربية التي أثارت قضية الأجناس الأدبية في التراث العربي، وحاولت إلقاء الضوء  عليها والتنبيه إلى أهميتها، واقتراح مشروع أولي لدراستها ([6]).

3.       محمد الهادي الطرابلسي وعبد السلام المسدي وكلاهما بين أهمية وخطورة مسألة الأجناس الأدبية، فمحمد الهادي الطرابلسي يعتقد أن مسألة الأجناس الأدبية تبدو في الظاهر على درجة من الوضوح بحيث يصبح الخوض فيها من باب الفضول بينما الحقيقة إن مسألة الأجناس الأدبية مهمة إن على الصعيد النظري العلمي، أم على الصعيد الفني الإبداعي أو على الصعيد المنهجي، ومسألة الأجناس لا تقتصر على النقد الأدبي وحده، فهي تدخل في باب الأشكال والأشكال باب بين بابي الأساليب والمضامين، فهي بذلك بين عناصر الدرس المتأرجحة بين الأسلوبية والنقد الأدبي([7])

4.       عبد العزيز شبيل وله كتاب بعنوان: نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري، جدلية الحضور والغياب، وهذا الكتاب في الأصل بحث أنجزه صاحبه للحصول على دكتوراه الدولة بمنوبة تونس عام 2000 بإشراف الدكتور حمادي صمود، وقد تناول في بدايته الأجناس الأدبية في النقدين الغربي والعربي، وخص بحثه بالأجناس النثرية كما يشير العنوان([8]).

هناك اختلاف بين في استخدام المصطلح جعلت الباحث يقول:» فالنقاد أمثال محمد غنيم هلال في كتابه (الأدب المقارن)، وعبد السلام المسدّي في كتابه (النقد والحداثة)، وأحمد كمال زكي في كتابه (دراسات في النقد الأدبي)، وفؤاد مرعي في كتابه (مقدمة في علم الأدب)، ورشيد العبيدي في كتابه (دراسات في النقد الأدبي)، وخلدون الشمعة في بحثه (الأجناس الأدبية من منظور مختلف)، وعبد الإله الصائغ في بحثه (التجنيس بين الخطابين الشعري والسردي) وغيرهم أكدوا على مصطلح الجنس الأدبي ولم يستعملوا مصطلح النوع الأدبي أو الشكل الأدبي. ولكننا نجد في الجهة المقابلة عددًا من النقاد قد ركزوا على مصطلح النوع، وهم كل من عبدالمنعم تليمة في كتابه (مقدمة في نظرية الأدب)، وعلي جواد الطاهر في (كتابه مقدمة في النقد الأدبي)، وعبدالله إبراهيم في بحثه (مقدمة في نظرية الأنواع الأدبية) وغيرهم كثير. كما أن عددًا من الكتب التي ترجمت للعربية استخدم فيها المترجمون مصطلح نوع كذلك، وهذا واضح في كتابه (نظرية الأدب) لرينيه ويليك، وكتاب نظرية الأدب لعدد من الباحثين السوفيت المختصين. ومن هذا الاستقراء يمكن الاستدلال على كون المصطلح ما زال قيد الدراسة والتمحيص بدلالة عدم تحديد وجهة عامة له وأي المصطلحات التي تناسبه.هذا الاختلال المصطلحي راجع إلى إمكانية تطور الأجناس عبر العصور المتعاقبة بحسب ما يأتي به المبدع من ملامح جديدة تفضي بإضفاء لمسات  حيوية على عناصر هذا الجنس أو ذاك، ومن ثمة وبحسب هذا التغيير والتنوع والاستمرارية في التبديل تتولد في المقابل لدى النقاد والباحثين ردة فعل مشابهة تجعلهم يتوحدون في مجالات منوعة الغرض منها الاهتداء إلى التسمية المصطلحية المناسبة لهذا الجنس الذي تطور بعض الشيء»([9]).

 إن هذا الاختلاف في استخدام المصطلح أمر لا يضر جوهر البحث في الموضوع، يقول الباحث السالف الذكر:»ومهما يكن الاختلاف في هذه القضية من حيث تنوع المصطلحات لموضوع معين فإننا - وقد يكون هذا رأي غيرنا كذلك - نرى أن المصطلحات جميعها وإن اختلفت من حيث الهيئة الشكلية المكتوبة فإنها مترادفة الفحوى ولا تقبل القسمة على اثنين على الرغم من اختلاف بعضها من جانب الزيادة والنقصان، وهذا أمر لا ضير فيه تبعًا للتغييرات التي تحصل على مرّ العصور، شرط أن يحتفظ الجنس بجوهره العام المميز الذي يعد الفيصل بينه وبين الآخر»([10])

         وبالعودة إلى القواميس العربية في ما يخص الجنس والنوع نجد أن اللفظتين متقاربتان فكلاهما يدل على ضرب من الأشياء أو من الإنسان أو الحيوان أي مجموعة متماثلة، جاء في لسان العرب : الجنس : الضرب من كل شيء... والجنس أعم من النوع، ومنه المجانسة والتجنيس . ويقال : هذا يجانس هذا ؛ أي : يشاكله... الحيوان أجناس : فالناس جنس، والإبل جنس، والبقر جنس، والشاء جنس والنوع أخص من الجنس وهو أيضا الضرب من الشيء ([11]). وفي معجم المعاني جنّس الأشياء: شاكل بين أفرادها، والجنس أعم من النوع ([12]). فهذه القواميس تجعل لفظة الجنس أعم وأشمل من النوع وفي كلمة نوع تضيف معنى آخر هو الحركة فنوع من ناع الغصن إذا تحرك، وقد خصص عبد العزيز شبيل فصلا  عن مفهوم الجنس والنوع في اللغة والاصطلاح وذلك في كتابه نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري، جدلية الحضور والغياب، يقول : إن جل المعاجم اللغوية تتفق على معنى لفظتي جنس ونوع، فلفظة جنس تدل على الضرب من الشيء ولا تكاد لفظة النوع تختلف في تعريفها الأول عن الجنس، أما دلالتها المختلفة حسب الاشتقاق فيمكن حصرها في معنى التمايل أوالتذبذب، وهو ما يوحي بضرب من الانحراف عن الجنس والاختلاف عنه بوصفه الوضع الأصلي لذلك يقال ناع الغصن ينوع واستناع وتنوع أي تمايل وتحرك بفعل الرياح([13]).  ويخلص الباحث السالف الذكر إلى النتيجة الآتية المتعلقة بالدلالة العامة للفظتي الجنس والنوع، وتتمثل هذه النتيجة في ملاحظتين :

1 – في شروح لفظة جنس إشارة إلى فكرة محورية تحوم حولها كل الدلالات هي فكرة التشابه والتماثل، ولعل هذه الفكرة تشير، ضمنيا، إلى مبدا الثبات  الذي يفرضه الإطلاق والتعميم.

2- أما شروح لفظة (نوع) فتدور حول فكرة الانحراف أو الاختلاف أو التنوع، وهي فكرة توحي بمبدأ التحول والتغير المرتبط بمبدأ التعيين والتخصيص ([14]).

وفي الحقيقة إن تتبع لفظتي الجنس والنوع لم يوضح لنا الصورة بقدر ما أوقعنا في مشكل فهل نعتبر الجنس هو الكلام وندرج تحته الشعر والنثر باعتبارهما نوعين، أم نعد كلا منهما جنسا تندرج تحته أنواع، أو نعتبر كل مجموعة متماثلة من النصوص جنسا من الأجناس الأدبية؟.

في اعتقادي إنه لاينبغي أن تثنينا الاختلافات في استخدام المصطلح ولا الشروحات اللغوية والفلسفية للجنس والنوع عن اعتماد ما سنسميه بالأجناس الأدبية للدلالة على مجموعة من النصوص الأدبية تشترك في جملة من الصفات الرئيسئية وكما يقول جميل حمداوي فإن الجنس الأدبي يتحدد» بوجود قواسم مشتركة أو مختلفة بين مجموعة من النصوص، باعتبارها بنيات ثابتة متكررة ومتواترة من جهة، أو بنيات متغيرة ومتحولة من جهة أخرى. وهذا ما يجعل تلك النصوص والخطابات تصنف داخل صيغة قولية أو جنس أو نوع أو نمط أدبي معين. لكن عناصر الاختلاف الثانوية لا تؤثر بشكل من الأشكال على الجنس الأدبي؛ لأن المهم هو ما يتضمنه من عناصر أساسية قارة وثابتة، وكلما انتهك جنس أدبي، ظهر على إثره جنس أدبي آخر توالدا وتناسلا وانبثاقا»([15]).

أهمية وخصائص الأجناس الأدبية

يقول جميل حمداوي عن قيمة الأجناس الأدبية « الأجناس الأدبية مقولات مجردة نظرية وسيطة تربط النص بالأدب من جهة، وتصله بالمتلقي من جهة أخرى. كما أن هذه المقولات هي التي تسعفنا في فهم الأعمال الأدبية وتأويلها وتقويمها، وتساعدنا على تصنيف النصوص وتجنيسها وتنميطها، وهي التي تخلق أفق انتظار القارىء أثناء التعامل مع النصوص والأعمال الفنية. وبهذا، تتحول هذه المقولات المجردة إلى بنيات ثابتة متعالية، وأشكال تصنيفية جاهزة، تعتمد عليها المؤسات الاجتماعية: الثقافية، والتربوية، والأدبية، وغيرها من المؤسسات المجتمعية، في التمييز بين النصوص والخطابات والأشكال التاريخية، وتصنيفها إلى أنواع وأشكال وأنماط، ضمن خانات وأقسام ونظريات مجردة، تقوم بعمليات: الوصف والتفسير والتأويل.» ([16])

1 - يسمح قيام نظرية للأجناس الأدبية بالتمييز بين هذه الأجناس وعدم الخلط بينها، وبالتالي عدم المفاضلة بين جنس وآخر فقد أدى الجهل بالأجناس الأدبية أو تجاهلها في النقد العربي إلى المفاضلة بين الحكاية والرواية فعندما لا يجد الناقد في عمل روائي الشروط الفنية اللازمة يعتبرها حكاية وليست رواية وكأنه بذلك يصدر حكمه لصورة مسبقة تذهب إلى أن الحكاية أقل شأنا من الرواية([17])

2 - إن نظرية الأجناس الأدبية ليس الغرض منها إقامة الفواصل والحدود الصارمة بين الأجناس وإنما الهدف هو تمييز هذه الأجناس وتوصيفها وبيان خصائصها وهذا يدخل في صميم الدراسة الأدبية، وإذا كانت نظرية الأجناس الأدبية الكلاسيكية تقوم على افتراضات اجتماعية وسلوكية اكتسبت صفة القوانين المعمارية مع مرور الزمن فإن نظرية الأجناس الحديثة تتسم بأنها نظرية وصفية بحتة أي تحاول تجنب إعطاء تحديدات مفروضة، فمهمتها إذن هي مهمة تمييزية([18])

4-       يذهب خلدون الشمعة إلى أنه يمكن النظر إلى الحدود المبدئية لنظرية الأجناس من منظورين هما: أ - التقديم أي دراسة العلاقة بين المبدع والمبدع والمتلقي

 ب -بنية المبدعات أي الدراسة التقنية لخارطة الأجناس الأدبية التي تنتمي إليها هذه المبْدَعات([19])

4 تعالج نظرية الأجناس الأدبية قضيتين أساسيتين هما : ([20])

1  – الأسباب الداعية إلى وجود الأجناس الأدبية.

2 – أسس تقسيم الأدب إلى أجناس مع ما يستتبع ذلك من دراسة خصائص كل جنس ومكوناته وما يكتنفه من تطور أو تغير، وبيان أهدافه.

فيما يتعلق بالنقطة الأولى، فإن أسس الإبداع الأدبي يمكن حصرها في النقاط الأربعة التي أوردها الصادق العماري على النحو الآتي :

1 -التعبير عن الذات الفردية، وعن هذا العنصر نشأ الشعر الغنائي، والأجناس النثرية كالخطابة والوصية وأدب الرحلة، والسيرة الذاتية والخاطرة، وهذه الأجناس تتسم بالطابع الذاتي وهو العنصر البارز فيها

2 - التعبير عن الجماعة، وعنه نشأت الأجناس الآتية: الملحمة والمسرحية والقصة والرواية والمقالة الموضوعية والسيرة الغيرية وكل الأجناس التي يعبر بها المبدع عن الآخرين.

3 - وصف الطبيعة بكل ما تضمه من أحياء ومظاهر وخفايا وعناصر، وتحت هذا العنصر نجد وصف الطبيعة وأدب الرحلة.

4 - ماوراء الطبيعة، وفي هذا النطاق نشأت أجناس أدبية كالابتهال والمواعظ وأدب الزهد وأجناس الأدب الصوفي وأدب الحياة الأخرى.

 ثم أضاف الباحث بعدا خامسا يتعلق بنزوع المبدع نحو الكمال وقد تولد عن ذلك النقد الأدبي أو الفني كما تولد عنه تاريخ الأدب وتسجيل حياة أعلامه وكل ما يتعلق بدراسة الأدب سواء تعلق الأمر بقضاياه أو اتجاهاته ومذاهبه وخصائصه الفنية.

التقسيم الغربي للأدب:

يرجع كثير من الباحثين قضية الأجناس الأدبية إلى أرسطو ويقولون إنه جعل الأدب ثلاثة أنواع هي المأساة أو التراجيديا والملحمة والشعر الغنائي والحقيقة أن بداية التقسيم كانت مع أفلاطون وتبنى تقسيمه ووضحه أرسطو كما يلي:

1-           الأدب الدرامي أو المأساة وأولاها أرسطو أهمية كبرى باعتبارها هي المحققة لعملية التطهير

2 - الأدب الملحمي وفي هذا الجنس نجد الحوار والسرد

3 - الأدب الغنائي، وفيه يعبر الشاعر عن أفكاره ومشاعره، وهنا تتمثل المحاكاة في محاكاة الشاعر لنفسه. وأساس هذا التقسيم الاختلاف في الموضوع أولا وما يستلزمه من استخدام اللغة، وحرص ارسطو على الفصل التام وعدم الخلط بين هذه الأجناس وهو ما  يدعى بنقاء النوع،  « ويرجع مبدأ النقاء هذا إلى أرسطو في فصله الحاد بين المأساة والملهاة مدعما من طرف هوراس فيما بعد»([21]). 

         ظل هذا التقسيم ساري المفعول وظهرت أجناس شعرية كثيرة في الأدب الغربي ولو أنها تندرج في العموم تحت التقسيم الثلاثي المذكور ومن الأجناس التي نجدها : الشعر الهجائي الأيامبي نسبة إلى بحر الأيامبي المنظوم عليه هذا النوع من الشعر، والشعر الأليجي الرثائيElegiac   وهو منظوم على الدوبيت.والشعر الإنشادي Melic وهو الشعر المغنى المصحوب بالناي أو القيثارة. والنشيد أو الترنيمة Hymn. لقد وجدت مجهودات في العصور الوسطى لتقسيم الأدب إلى أجناس وتحديد خصائص كل جنس، واستمر الحرص على التقسيم خلال الكلاسيكية جاء في كتاب نظرية الأدب « النظرية الكلاسيكية مبنية على أن الجنس الأدبي لا يختلف في الطبيعة والقيمة عن الجنس الآخر فحسب، بل أيضا على أنه ينبغي أن يفصل بينهما، ولا يسمح لهما بالامتزاج وهذا هو المبدأ الشهير المعروف بنقاء الجنس»([22])، لكن مع ظهور الرومنتيكية بدأت موجة أخرى تدعو إلى إمكانية المزج بين الأجناس الأدبية وقد تطورت هذه الفكرة مع البنيوية والتفكيكية بوجه خاص واتفت لدى رواد هذه المدارس عبارة الأجناس وعبارة النقد ليتم استخدام مصطلحات أخرى مثل الخطاب والنص والكتابة، ومن أبرز الداعين للمزج بين الأجناس الأدبية نذكر:

-     الإيطالي بندتو كروتشي (1866-1952) BENDETTO CROCE: بلغت هذه الدعوة ذروتها مع الإيطالي بندتو كروتشه الذي قال بموت الأجناس الأدبية، يقول: «لا تقولوا هذه ملحمة، وهذه غنائية أو هذه دراما، تلك تقسيمات مدرسية لشيء لا يمكن تقسيمه. إن الفن هو الغنائية أبدا، وقولوا إن شئتم هو ملحمة العاطفة ودراماها»([23]). يقول بندتو كروتشه»تتجسد هذه النظرة الخاطئة في سلسلتين مذهبيتين تعرف إحداهما باسم نظرية الأنواع الأدبية والفنية (الأدب الغنائي – الدراما – الرواية ) وتعرف الثانية باسم نظرية الفنون(الشعر – التصوير – النحت)وفي بعض الأحيان تعد النظرية الأولى قسما من النظرية الثانية ([24]). وكروتشه إنما يثور ضد التصنيف انطلاقا من نظرته للفن باعتباره حدسا وعي العبارة التي تتردد كثيرا عنده، يقول:» أقول إذا عدت إلى سؤال» ما الفن؟» بم يسعني إلا أن أبادر فأقول، في أبسط صورة : إن الفن رؤيا أو حدس. فالفنان إنما يقدم صورة أو خيالا، والذي يتذوق الفن يدور بطرفه إلى النقطة التي دله عليها الفنان، وينظر من النافذة التي هيأها له، فإذا به يعيد تكوين هذه الصورة في نفسه»([25]). إن اعتبار الفن حدسا، وعلى اعتبار الأدب فنا يجعل كروتشه ينفي عن الأدب باعتباره فنا جملة من الصفات التي لحقت به ومنها التجنيس، والأمر لايقتصر على الإبداع فقط بل وعلى النقد أيضا.

-     رولاند بارت : ينادي رولاند بارت بإلغاء الحدود الموجودة بين الأجناس الأدبية، وتعويض الجنس الأدبي  أو الأثر الأدبي بالكتابة أو النص. فالنص يتحكم فيه مبدأ التناص واستنساخ الأقوال وإعادة الأفكار و تعدد المراجع الإحالية التي تعلن موت المؤلف فلاداعي للحديث عن الجنس الأدبي ونقائه وصفائه،.  ويعني هذا أن الكتابة الأدبية  هي خلخلة لمعيار التجنيس وترتيب الأنواع وتصنيف الأنماط ([26]).

-     الفرنسي موريس بلانشو Maurice Blanchot 1907 - 2003 ،كاتب وفيلسوف فرنسي، كان لأعماله تأثيرا قويا على فلاسفة ما بعد البنيوية، نادى بحرية الأديب في المزج بين الأجناس الأدبية، وثار ضد كل القواعد التي تحكم العملية الإبداعية، له فصل بعنوان التبعثر ضمن كتابه أسئلة الكتابة يدعو فيه إلى التحرر من القواعد والقيم المسبقة فيقول:» لاشك أن شعورا بحرية مطلقة يبدو وكأنه يحرك اليد التي تريد الكتابة اليوم، يعتقد أنه يمكن قول كل شيء وقوله بأية طريقة»([27]). إن موريس بلانشو يدعو إلى الثورة ضد التقليد والعرف الأدبي،يقول» حالما ندرك أن الكتابة الأدبية -الأنواع، العلامات،...- ليست فقط شكلا شفافا، ولكن عالما مستقبلا تسود فيه المعبودات، وتهجع الأحكام المسبقة،وتعيش،غير مرئية، القوي التي تحرف كل شيئ، يكون من الضروري على كل منا أن يحاول الانفلات من هذا العالم، فهو إغراء لنا جميعا بتخريبه لإعادة بنائه نقيا من كل استعمال سابق، أو أحسن من ذلك بترك المكان فارغا، أن نكتب بدون الكتابة، أن نوصل الأدب إلى نقطة الغياب حيث يتوارى، حيث لانعود نخشى أسراره التي هي أكاذيب، عنا تكمن نقطة الصفر للكتابة «([28]). يتضح من القول السابق أن بلانشو ضد التقليد واتباع القواعد والتجارب السابقة، فالتقليد ليس جانبا شكليا بل هو عالم تسود فيه المعبودات والأحكام المسبقة، وهذا يقتضي الانفلات من هذا العالم، لنصل إلى نقطة الصفر في الكتابة، وهو لايدعو إلى تخريب ماهو قائم من أجل التخريب وإنما من أجل إعادة البناء، وأحسن من التقليد الصمت والذهاب بالكتابة إلى نقطة الصفر، وهذه العبارة تذكرنا بما أورده رولاند بارت الذي بدوره يقف ضد مقولة الأجناس الأدبية.

المدافعون عن الأجناس الأدبية:

لايظنن الباحث أن الاتجاه اللغوي برمته ضد الأجناس الأدبية فهناك من ظل يدافع عنها، ومن هؤلاء : ميخائيل باختين وجيرار جينيت و تودوروف، ولكن نظرة هؤلاء تختلف بطبيعة الحال عن الأجناس الأدبية بالمعنى الكلاسيكي، فباختين([29]). على سبيل المثال يدعو إلى حوار الخطابات وتفاعلها داخل الجنس الروائي»إن الرواية تسمح بأن نُدخل إلى كيانها جميع أنواع الأجناس التعبيرية، سواء كانت أدبية “قصص، أشعار، قصائد، مقاطع كوميدية” أو خارج- أدبية “دراسات عن السلوكات، نصوص بلاغية وعلمية، ودينية، الخ ([30]).

وبعد أن يستعرض مصطفى الغرافي مختلف الآراء الناكرة للأجناس الأدبية مقابلا لها بالآراء المؤيدة يخلص إلى القول بضرورة بقاء الأجناس الأدبية فيقول:» إذا كانت الدعوة إلى إلغاء الأنواع واجدة في الواقع الأدبي ما يدعمها ويرجحها، فإن ترتيب النصوص في أنظمة أنواعية كبرى يبقى مطلبا قائما وملحا، ليس يعدم من يتحمس له ويدافع عنه منذ أفلاطون إلى يوم الناس هذا، حيث ترسخ الاعتقاد بوجود الأنواع إلى درجة الإيمان بها “حاجة أدبية” و”ضرورة نقدية” قيامها واستمرارها لا ينبغي أن يكونا موضع شك أو محل طعن وجدل»([31]).

الأجناس الأدبية في الأدب العربي

وردت لفظة الجنس في مؤلفات الفلاسفة والبلاغيين والنقاد العرب للدلالة على القسمين الكبيرين الذين يتكون منهما الأدب العربي وهما الشعر والنثر، وقد استخدم الخطابي هذه اللفظة للقرآن معتبرا إياه جنسا قائما بذاته فقال: الكلام جنس يتفرع إلى أنواع ذلك أنه يقوم بأشياء ثلاثة» لفظ حامل ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وهذه مزية القرآن، حيث اجتمعت فيه هذه الثلاثة، فقد جاء بأفصح الألفاظ في أحسن تأليف مضمنا أصح المعاني، وهذه الفضائل لا توجد إلا متفرقة في أنواع الكلام»  والخطابي واحد من علماء الإعجاز ومن النقاد الذين استخدموا لفظة الجنس نذكر أبا هلال العسكري صاحب كتاب الصناعتين وهما الشعر والنثر وإلى مثل ذلك ذهب النقاد من قبله وبعده، وحين نتتبع التقسيمات الأدبية نجدها تختلف باختلاف العصور في مجالي الشعر والنثر، ففي كل عصر تظهر أنواع جديدة  وتتطور أنواع أخرى حسب ماتمليه ظروف العصر.

يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الطرح الذي قدمه سعيد يقطين الذي اعتمد مقولة الصيغة Mode باعتبارها مقولة كلية ومتعالية لسانيا وتاريخيا كما يذهب إلى ذلك جيرار جينيت، وباستخدام الصيغة رأى يقطين أن كلام العرب كله يوجد في صيغتين هما : القول والإخبار يتعلق الأول بما يعبر به القائل سواء شعرا أو نثرا، أما الإخبار فالمتكلم هنا ناقل لكلام غيره سواء كان بالشعر أو النثر، ومن هنا حصر يقطين الأجناس في ثلاثة هي : حديث - شعر- خبر([32]).

                                    الكلام

                      

                          القول            الخبر

              

                  حديث    شعر     شعر      خبر

الأجناس= حديث   شعر    خبر

يقول سعيد يقطين « هذه الأجناس الثلاثة تستوعب كل كلام العرب، وتبعا لذلك تغدو متعالية  على الزمان والمكان»([33]).. وبعد  حديثه عن الأجناس يتحدث عن الأنواع  ويقسمها إلى أنواع ثابتة وأخرى متحولة وأخرى متغيرة، ثم يستخدم مصطلحا آخر هو الأنماط، وسعيد يقطين في تقسيمه هذا إنما اجتهد ووضع  هذه  الأمور التي  تتصف  في بعض أجزائها بالغموض  وتبقى محاولته أقرب إلى الفردية إذ لم يتم تبنيها لاعلى المستوى المدرسي ولا الأكاديمي  وهي في ذبك تشبه ماكان قد أشار إليه من قبل طه حسين في تقسيم الأدب لا على أساس المنظوم والمنثور وإنما بطريقة أخرى بقيت دفينة الكتاب الذي وردت فيه قال طه حسين « يجب أن يقسم الكلام إلى شعر وخطابة وكتابة، وهي التي تعودنا أن نعبر عنها أحيانا بالنثر الفني في الكتب والرسائل،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻦاﻟﺤﻖ أن أول ﻣﻦ أﺣﺪث في ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ ﻟﺬة اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﻔﻨﻴﺔ في اﻟﻌصراﻹﺳﻼﻣﻲ في اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻟﻠﻬﺠﺮة ﻫﻮﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ واﺑﻦالمقفع»([34])


الهوامش





[1] - عبد العزيز شبيل: نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري، جدلية الحضور والغياب، دار محمد علي الحامي، صفاقس ، تونس ، 2001

[2] - شكري عزيز الماضي: في نظرية الأدب، دار الحداثة للطبع والنشر والتوزيع،1976  ص ص 97-101.

[3] - رشيد يحياوي: الشعرية العربية ، الأنواع والأغراض ، دار افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1991.

[4] - محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 9 / 2008 ص117.

[5] - خلدون الشمعة « مقدمة في نظرية الأجناس الأدبية»مجلة المعرفة، ع 177 نوفمبر 1976 دمشق ، سوريا، ص ص 6-25

[6] - عبد العزيز شبيل: نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري ص 62

[7] - عبد العزيز شبيل: نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري ص 68 نقلا عن محمد الهادي الطرابلسي: بحوث في النص الأدبي، فصل تفاعل أساليب التعبيروأجناس الكتابة، ص 183.

[8] - عبد العزيز شبيل: نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري ص 62

[9] - سامي شهاب الجبوري: مصطلح الجنس الأدبي في المنظور العربي (الإشكالية والوظيفة) http://www.fikrmag.com/article_details.php?article_id=648

[10] - سامي شهاب الجبوري: نفسه.


[12] - معجم المعانيhttps://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar           

[13] - عبد العزيز شبيل: نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري، ص 144           

[14] - نفسه ، ص 145.           

[15] - جميل حمداوي: من أجل قوانين جديدة لتحديد الجنس الأدبي،http://www.diwanalarab.com/spip.php?article31102  السبت 31/12/2011،           

[16] - جميل حمداوي: نفسه

[17] - خلدون الشمعة « مقدمة في نظرية الأجناس الأدبية»مجلة المعرفة، ص ص 6-25

[18] - نفسه ، ص ص 6-25.           

[19] - نفسه ، ص ص 6-25.

 [20] - الصادقي العماري: قضية الأجناس  الأدبية في الفكر الأدبي http://www.aljabriabed.net/n39_09sadkiammr.htm .

[21] - لطيفة إبراهيم برهم وقصي محمد عطية : في تداخل الأجناس الأدبية،  مجلة جامعة تشرين للبحوث والراسات العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية مج 33 ع 2 /2011 le:///C:/Users/user/Desktop/كتب/1الأجناس%20الأدبية.pdf
نقلا عن يحياوي رشيد: مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية ، المغرب ، افريقيا الشرق ط2، 1994، ص 19.

[22] - رينه وليك و آوستن وآرن: نظرية الأدب، تعريب د / عادل سلامة ، دار المريخ للنشر ، المملكة العربية السعودية.

[23] - رشيد يحياوي: الشعرية العربية ، الأنواع والأغراض ص 26.

[24] - بندتو كروتشه: المجمل في فلسفة الفن، تر. سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، ط1 2009 ص 69.

[25] - بندتو كروتشه: نفسه ص 29.

[26] - جميل حمداوي: إشكالية الجنس الأدبي، http://www.startimes.com/?t=23792656.

[27] - موريس بلانشو:أسئلة الكتابة، تر. نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ص 35.

[28] - موريس بلانشو:أسئلة الكتابة، ص 41.

[29] - ولد ميخائيل باختين عام 1895 في أوريل ابنا لعائلة أرستقراطية ما لبثت أن أضحت معدمة، فقد كان والده كاتبا في مصرف. درس فقه اللغة في جامعة أوديسا ومن ثم في جامعة بتروغراد وتخرج عام 1918. عمل في سلك التعليم الابتدائي، وتزوج في 1921، وفي العام نفسه أصيب بالتهاب عظام حاد مزمن مما أدى إلى بتر رجله عام 1938. ألقي عليه القبض عام 1929 لأسباب مجهولة، لكنها قد تكون متعلقة بارتباطاته بالمسيحية الأرثوذوكسية، حكم عليه بالسجن خمس سنوات، ولظروفه الصحية تم التخفيف بالنفي إلى قازخستان. عمل حينها في أعمال كتابية لدى مؤسسات مختلفة، ثم حصل على وظيفة في كلية المعلمين، ثم استقر في كمر القريبة من موسكو ودرس بها اللغتين الروسية والألمانية، ثم مارس بعض النشاطات الأدبية. لما تدهورت صحته استقر في موسكو، ووافته المنية عام 1975. هذا مختصر، وللتفاصيل انظر: تزفيتان تودوروف: ميخائيل باختين، المبدأ الحواري، ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 1996، ص: 23، …26.

[30] - ميخائيل باختين،: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2009،ص 160

[31] - مصطفى الغرافي: مسألة النوع الأدبي1. https://www.alawan.org/2016/10/14/

[32] - سعيد يقطين: الكلام والخبر مقدمة للسرد العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت 1997. ص194.

[33] - سعيد يقطين: الكلام والخبر مقدمة للسرد العربي، ص 94.


[34] - طه حسين ،من حديث الشعر والنثر،ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، د- ت ، ص 41.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مفردات مقياس نظرية الأدب السنة 2 ماستر أدب حديث ومعاصر